ابتدأت مرحلة جديدة وعصيبة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد كثرت وتكالبت المحن والشدائد عليه، من موت عمه الذي كان يدافع عنه ويحميه، وموت زوجته التي كانت تواسيه وتخفف عنه آلامه، ومع هذا فقد مضى في تبليغ دعوته ورسالته، فعزم على أن ينتقل إلى بلد غير بلده، وقوم غير قومه، وهو في ذلك يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، فدعا سرا وجهرا، وبشر وأنذر، ودعا إلى الله في كل وقت وحال.. فهاهو ينتقل إلى الطائف، لمحاولة إيجاد مكان وأرض جديدة للدعوة، يذهب إليها ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيرا على قدميه ذهابا وعودة، لكن أهل الطائف لم يستجيبوا له، وردوه ردا منكرا، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، فوقفوا له صفين يلقونه بالحجارة، فأصيب في قدميه، وسال دمه الزكي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أرض الطائف، وزيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ معه، يدافع عنه حتى أصيب في رأسه .. ومازالوا به وبزيد حتى دخلا إلى بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ليستريحا، فلما رآه عتبة وشيبة على هذه الحال الشديدة أشفقا عليه، وأرسلا غلاما لهما اسمه عداس بقطف من عنب، فوضعه بين يديه.. وفي هذه اللحظات من الأسى والحزن والألم، جاءه مَلَك الجبال ليأمره بما شاء من إهلاكهم، فرفض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم رجع إلى مكة مرة ثانية. إذا تأملنا هذه الرحلة الشاقة، التي قام بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف، وما انطوت عليه من آلام جسدية ونفسية وما حدث فيها، نستخلص دروسا نافعة، نستفيد منها في تعاملنا مع واقعنا الذي نعيشه، وهي كثيرة، منها : لقد أظهرت هذه الرحلة الشاقة بصورة عملية، معاني الصبر والرضا والشفقة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. فقد استقبل هذه المحن التي تعرض لها صابرا، وتجرع تلك الشدائد محتسبا وراضيا، وإلا فقد كان بوسعه أن ينتقم من السفهاء الذين آذوه، ومن زعمائهم الذين أغروا به، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم.. لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صبر ورضي، بل وأشفق عليهم رغم إيذائهم له، فقد كانت رحمته وشفقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي التي تغلب في المواقف العصيبة التي تضغط على النفس لتشتد وتقسو، ومع ذلك تبقى نفسه الكبيرة، ورحمته العظيمة هي الغالبة.. سألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلة: ( يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب(ميقات أهل نجد)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟، إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) ( البخاري ).. لقد كانت إصابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد أبلغ من الناحية الجسدية، أما من الناحية النفسية فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد، ومع ذلك رفض إهلاك من آذوه، فقد كانت نظرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، نظرة مستقبلية فيها أمل وشفقة، شفقة عليهم ، وأمل في أن يكون منهم ومن أبنائهم، من يحمل راية الإسلام عالية خفاقة، وكان ما رجاه وأمَّله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ولسائل أن يتساءل ما موقع وأثر كل ما رآه وتعرض له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الرحلة الشاقة؟، يتضح الجواب على ذلك فيما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد بن حارثة ، حينما سأله زيد قائلا: كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وهم أخرجوك؟، فأجاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يقين وثقة واطمئنان ـ قائلا: ( يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه ). وفي ذلك درس هام، وهو يقينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوعد الله ونصره، فكل الذي حدث له ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل رحلة الطائف وبعدها، لم يكن له أي تأثير على ثقته ويقينه بوعد الله ونصره، وتفاؤله وقوة عزيمته في تبليغ دعوته ورسالته، فيعلمنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لا تصدنا المحن والعقبات التي نلاقيها عن السير في طريق دعوتنا إلى الله، وأن لا تبث فينا روح الإحباط والكسل، فمن استمد القوة من الله جدير به أن لا يعرف لليأس وفرحنال معنى، فمادام الله هو الآمر، فلا شك أنه هوـ سبحانه ـ المعين والناصر أيضا .. ومع ما في هذه الرحلة الشاقة من آلام، فلقد تحقق فيها انتصارات دعوية، فقد أسلم عداس النصراني، فبعد العسر يأتي اليسر، ومع الهم يأتي الفرج.. فحينما جلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بستان ابني ربيعة ليستريح قليلا، أرسلا غلاما لهما نصرانيا ـ يقال له عداس ـ بقطف من عنب إلى رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ، فلما وضعه بين يديه ـ صلى الله عليه وسلم، مد يده قائلا:( بسم الله ثم أكل، فقال عداس : إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من أي البلاد أنت وما دينك؟، فقال عداس : أنا نصراني من أهل نينوي، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟، فقال عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رأس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويديه ورجليه يقبلهما وأسلم ) .. وفي إسلام عداس مواساة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلئن آذاه قومه، فهذا من العراق من نينوي، يقبل يديه ورجليه، ويشهد له بالرسالة ويسلم، وكأنه يعتذر عن إيذاء أولئك السفهاء، فبعد الصد والإعراض من قومه، يأتي من يؤمن به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تلك البلاد البعيدة. وكذلك في إسلامه ـ رضي الله عنه ـ فائدة عظيمة، ألا وهي فضل وبركة التمسك بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالتسمية قبل الأكل من السنن والآداب التي علمها لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والتمسك بهذه الآداب والسنن من أسباب تميز المسلمين على من حولهم من المشركين، وهذا التميز يلفت أنظار الكفار دائما، ويدفعهم إلى السؤال، ثم يقودهم ذلك إلى فهم الإسلام والانجذاب إليه والدقلبي فيه، كما حدث مع عداس ومع غيره إلى يومنا هذا .. ومن خلال هذا الحدث ـ رحلة الطائف ـ رأينا حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ودفاعهم عنه، ظهر ذلك فيما فعله زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ، من دفاع وحمايته بنفسه للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حتى شُج في رأسه، وهذا نموذج لما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم في الدفاع عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.. ولئن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير موجود بيننا، فلا يُتصور الدفاع عنه على النحو الذي كان يفعله أصحابه، لكن ذلك يتحقق على نحو آخر، وهو أن نتمسك بسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وندافع عنها وندعو إليها، وأن نشارك بشيء من تحمل الجهد في سبيل ديننا والدعوة إليه، كما فعل ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ومن خلال مقترح ملَك الجبال، وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهجه في التغيير، وهذا من الدروس الهامة من هذه الرحلة الشاقة، إذ كان مقترح ملَك الجبال أن يُطبق عليهم الجبلين، وهو يدخل تحت أسلوب ومنهج الاستئصال، وقد نُفِذ في قوم نوح وعاد وثمود ولوط، قال تعالى:{ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (العنكبوت:40). وكان هناك مقترح آخر، وهو أن يستمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هجرته وبُعده عن مكة، وعرض ذلك زيد في قوله لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو راجع إلى مكة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟.. لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفض منهج الاستئصال، وامتنع عن فكرة الاعتزال والهجرة المستمرة، ونظر إلى المستقبل بنور الإيمان، وروح التفاؤل، وقرر الرجوع إلى مكة، ليواصل دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، رغم ما يلقاه من تعب ومشقة وعداء من قومه، وهذا هو الأسلوب والمنهج الذي وضعه لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوتنا إلى الله، كما قال تعالى :{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (النحل:125).. إن رحلة الطائف، رغم ما فيها من أحداث مؤلمة، تركت لنا دروسا هامة، ينبغي على المسلم الوقوف معها والعمل بها، ليسعد في الدنيا والآخرة ..