منذ أن جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوته، وصارح قومه بضلال ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم ، انفجرت مكة بمشاعر الغضب ، وظلت عشرة أعوام تعتبر المسلمين عصاةً متمردين على دين الآباء والأجداد ، ورأت قريش أنَّه لابد من مواجهة هذه الدعوة التي جاءت بتسفيه أحلامهم وسب آلهتهم والقضاء على زعامتهم ، فقرروا أن لا يألوا جهداً في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه ، والحد من انتشاره ، فاتخذوا لذلك أساليب شتى وطرقاً متعددة منها : السخرية والاستهزاء والنيل من الرسول - صلى الله عليه وسلم- ورسالته ، ورميه بشتى التهم والأوصاف ، بغرض صد الناس عنه ، وتخذيل المؤمنين به ، وتوهين قواهم ، فتارة يتهمونه بالجنون {وقالوا يا أَيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } (الحجر:6) ، وتارة يصمونه بالسحر والكذب{ وعجبوا أن جاءهُم منذر منهم وقال الكَافرون هذَا ساحِر كَذاب } (ص:4) ، وتارة ينسبونه إلى الشعر والكهانة ، وتارة يسخرون من جلسائه وأصحابه من المستضعفين ، ويجعلونهم مثاراً للضحك والهمز والغمز ويقولون : {أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا } (الأنعام 53) . ومن الأساليب كذلك الحرب الإعلامية المتمثلة في تشويه تعاليم الإسلام ، وإثارة الشكوك والشبهات حوله ، حتى لا يبقى هناك مجال للآخرين للتفكير في الدعوة ، فضلاً عن قبولها ، فقالوا عن القرآن : { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون }(الفرقان 4 ) ، { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرَة وأصيلا } (الفرقان:5) ، وقالوا { إنما يعلمه بشر } ( النحل 103) . وأثاروا الشبه حول قضية الإيمان والبعث بعد الموت فكانوا يقولون : {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون }(الصافات 16-17) ، وكانوا يقولون : على جهة السخرية والاستبعاد : {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد }( سبأ 7) . وأثاروا الشبه أيضاً حول رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم- حيث ادعوا أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر {وقالوا مال هذَا الرسول يأكل الطعَام ويمشي في الأسواق } ( الفرقان 7) ، و{قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء }( الأنعام 91) ، إلى آخر تلك الشبه والشكوك التي ذكرها القرآن ورد عليها رداً مفحماً يقنع كل عاقل ، ويلجم كل جاحد . ومن الأساليب التي اتخذوها في محاربة الدعوة الحيلولة بين الناس وبين سماع القرآن ، ومعارضته بأساطير الأولين ، فوقفوا للناس بكل طريق يلاحقونهم ، ويثيرون الشغب والصخب كلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم- تلاوة القرآن وإسماع الناس كلام الله {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } (فصلت 26) . وقد ذكر أهل السير أن النضر بن الحارث قال مرة لقريش : يا معشر قريش والله لقد نزل بكم أمر عظيم ما أوتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر ، لا والله ما هو بساحر ... ثم عدد لهم ما يقولونه عنه وردَّ عليهم فقال : ولا هو بمجنون ولا بشاعر . ثم ذهب إلى الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وغيرهم ، فكان كلَّما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً للتذكير بالله ، جاء بعده النضر وقال لهم : والله ما محمد بأحسن حديثاً مني ، ثم أخذ يحدثهم عن ملوك فارس وخرافات رستم و أسفندبار ، ويقول بماذا محمد أحسن حديثاً مني ؟ . ومن الأساليب كذلك أسلوب المجادلة ، ومحاولة التعجيز بالأسئلة وطلب الآيات ، فبعد أن أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجج والبراهين على صحة دعوته ، وصدق نبوته ، احتار المشركون في أمره ، وأبوا تصديقه كفرًا و عنادًا ، ولم يجدوا أمام هذه الأدلة والبراهين - التي لا يستطيعون دفعها - إلا أن يطالبوه بعدد من المطالب التي لم يكن الغرض منها التأكد من صدقه عليه الصلاة والسلام ، وإنما مجرد التعنت والتعجيز : {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه }( الإسراء 90- 93) . وقد اقتضت الحكمة الإلهية ألا يجابوا إلى ما سألوا ، لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم الآيات فأجيبوا ، ثم لم يؤمنوا بعدها عذَّبهم الله عذاب الاستئصال ، كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم من الأمم ، فروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشا قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم- : ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك ، قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم ، قال فدعاه : فأتاه جبريل فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا ، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة ، فقال : بل باب التوبة والرحمة ، فأنزل الله تعالى : {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } ( الإسراء 59) . وقال جل وعلا: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون } (الأنعام 8) يعني لو استجاب الله لطلبهم بإنزال ملك ، فسيكون الأمر منتهياً فلو كذبوا بعد تلك الآية التي طلبوها فلن يمهلوا أو يؤخروا . مع أن الله جل وعلا يعلم أنهم لو أجيبوا وعاينوا ما طلبوا لما آمنوا ، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون ، كما قال جل وعلا : {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون } (الأنعام 109-111). ومن جملة محاولات التعجيز التي قاموا بها اتصالهم بأهل الكتاب من اليهود لمعرفة بعض الأسئلة والتفاصيل التي تفيدهم في تحقيق هذا الغرض ، وإظهار النبي صلى الله عليه وسلم بمظهر العاجز عن الجواب ، ولعل في سبب نزول سورة الكهف ، وقول الله تعالى {ويسألونك عن الروح ... } ما يبين ذلك بوضوح . ومن الأساليب كذلك أسلوب المفاوضات والمساومات ، فكانوا يرسلون الوفد تلو الوفد ليعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم- عدداً من العروض المغرية طمعاً في أن يلين أو يتنازل ، فأرسلوا إليه عتبة بن ربيعة وقال له : " إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وان كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً ، وان كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فانه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه " . فلا تزيده تلك العروض إلا ثباتاً على مبدئه ، ويقيناً بدعوته ، دون مراوغة أو مداهنة قائلاً لهم : ( ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ماجئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة ، وإن تردوا عليّ اصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ) . وعندما رأى المشركون صلابة موقفه واستعلاءه على كل المطامع الدنيوية والحظوظ العاجلة ، سلكوا طريقاً آخر يدل على طيش أحلامهم ، وسفه عقولهم ، وهو محاولة أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، وذلك بأن يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض ما هو عليه من الحق ، ويترك المشركون بعض ما هم عليه من الباطل ، فقالوا : يا محمد هلمَّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبده خيراً مما نعبد كنَّا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد أنت ، كنت قد أخذت بحظك منه ، فأنزل الله تعالى فيهم سورة كاملة وهي سورة " الكافرون " والتي بينت بوضوح أن طريق الحق واحد لاعوج فيه ، وليس هناك مكان لأنصاف الحلول أو المداهنة والتنازل ، فالقضية ليست قضية شخصية ، وإنما هي دعوة ربانية ، وشرعة إلهية لا تقبل المساومة مهما كانت الأسباب والدوافع والمبررات . ولما لم تفلح كل تلك الوسائل والسبل للصد عن سبيل الله ، وتشويه معالم الدعوة ، سلكت قريش سبيلاً آخر يدل على فشلها وإحباطها ، فعادت لتصب جام غضبها على المؤمنين ، وتبذل آخر ما في وسعها للتنكيل بهم ، ومحاولة فتنهم عن دينهم ، ولكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .