بعد نزول قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} (الحج:39)، ثم نزول الإذن بالقتال، أخذ رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إعداد العدة وتجهيز القوة لمواجهة الكفر وأهله، وأراد المسلمون توجيه رسالة قوية إلى قريش من خلال حصارها سياسياً واقتصادياً، وأرادوا كذلك إشعار يهود المدينة ومنافقيها والأعراب بأن المسلمين أقوياء، وأن فترة الاستضعاف السابقة قد أدبرت. وانطلاقاً من ذلك فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عدداً من السرايا والبعوث، لمتابعة تحركات قريش ونشاطاتها، فمن تلك السرايا التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر الكبرى: سرية سيف البحر في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة، وبقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، خرجت سرية سيف البحر، وكانت في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، وكان ذلك أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الهدف الأساسي من هذه السرية اعتراض عيرٍ لقريش جاءت من الشام، فيها أبو جهل بن هشام ومعه ثلاثمائة راكب من قريش، فالتقى المسلمون والمشركون عند سيف البحر من ناحية العيص - موضع على ساحل البحر الأحمر بطريق قريش إلى الشام -، واصطفوا للقتال لولا تدخل مُجدي بن عمرو الجهني ، وحيلولته دون ذلك، حيث إنه كان حليفاً للفريقين، فانفض الفريقان دون لقاء. وعاد المسلمون بعد ذلك إلى المدينة دون خسائر، ولكنهم كسبوا المهارة, والدربة لسرايا وغزوات أخرى قادمة. ويؤخذ من هذه السرية أن الموقف بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش انتقل إلى الجانب العسكري، بعد أن كان دعويا يتخذ من العرض السلمي أسلوبا له، كما يؤخذ من هذه السرية أن مقابلة فئة قليلة لعدد كثير يفوق وهو ما حصل في تلك السرية، ينُبئ عن شجاعة نابعة من إيمان قوي، وعقيدة راسخة، وحب للقاء الله عز وجل. سرية رابغ وكانت في شوال من السنة الأولى للهجرة، بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب ، وكان عدد المسلمين فيها نحو ستين رجلاً من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، فالتقوا بأبي سفيان على بطن رابغ، وكان معه من الأعداء مائتي راكب وراجل، ، وترامى الفريقان بالنبل، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله، وانفضّ الفريقان بعد ذلك من غير قتال. فكانت أول مواجهة عسكرية يلتقي فيها المسلمون لأعداء الله، ثم انسحب المؤمنون انسحابا قويا ومنظما كان له الأثر البالغ على المشركين. سرية الخرار وقعت في ذي القعدة من السنة الأولى للهجرة ، وشملت عشرين راكباً بقيادة سعد بن أبي وقاص ، لاعتراض عيرٍ لقريش، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل حتى وصلوا الخرَّار وهو موضع قرب الجحفة، فوجدوا العير قد مرت. سرية نخلة وكانت في رجب من السنة الثانية للهجرة ، وتتكون من اثني عشر رجلاً من المهاجرين بقيادة عبدالله بن جحش الأسدي ، وقد أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً ، وأمره ألا يقرأه إلا بعد مسيرة يومين ، وتضمن الكتاب الأمر بالمُضِّي حتى وصول نخلة بين مكة والطائف ، ثم القيام برصد عيرٍ لقريش ، فساروا حتى بلغوا المكان ، فمرت العير تحمل زبيباً ، وأُدْماً ، وتجارة ، فلحق بها المسلمون حتى أدركوها في آخر يوم من رجب وهو من الأشهر الحرم ، فقتلوا ناساً من القافلة ، ولاذ البعض بالفرار ، وعادت السرية بالعير وأسيرين إلى المدينة ، فعاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتالهم في الشهر الحرام ، واستغل المشركون الحادثة ، وتحدثوا أن المسلمين قد انتهكوا الأشهر الحرم ، ثم نزل القرآن حاسماً للموقف بأنّ ما يقوم به المشركون من الصد عن دين الله ، وعن المسجد الحرام ، وإيذاء المؤمنين، والشرك بالله، أشد حرمة من القتال في الأشهر الحرم، قال تعالى: { يَسأَلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أَهله منه أَكبر عند اللَّه والفتنة أَكبر من القتل } (البقرة:217). بعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، ودفع دية المقتول إلى أوليائه. وكانت تلك السرايا في جملتها تهيئة للمسلمين، وإعداداً وتمهيداً مهماً لغزوة بدر الكبرى.وقد حققت تلكم والتحركات أهدافها، والتي من أهمها :- - بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج، فقد استطاعت تلك السرايا أن تلفت أنظار أعداء الدعوة والدولة الإسلامية إلى قوة المسلمين وقدرتهم على الجهاد. - كانت السرايا بمثابة الإعداد العسكري لما يستقبله الصحابة من فتوحات وغزوات قادمة، وكانت السرايا شاهدا على إخراج جنود وقادة قامت على أيديهم نصرة هذا الدين . - وكان الهدف الرئيس الذي تحقق، هو ضرب مركز العدو ( قريش )، حيث إنَّ قريشاً أدركت أنّ جانب المسلمين أصبح من المنعة بمكان ، وأنّ طريق تجارتها كذلك أصبح مهدداً من قِبَل المسلمين ، وأنّ عليها أن تفيء إلى رشدها وتذعن لأمر ربها ، أو على الأقل تمتنع من الوقوف في وجه تلك الدعوة المباركة الآخذة في الانتشار والقبول. لقد كان لتلك السرايا والبعوث الأثر البالغ على العصبة المؤمنة، حيث زادتهم يقيناً بنصر الله، وثباتاً على الحق، واعتقاداً بأن العاقبة للمتقين، كيف لا وقد بشرهم الله بذلك عندما قال: { وعد اللّه الذين آمَنُوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأََرض كما استخلَف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } (النور:55) ، وقال تعالى: { ولينصرن اللَّه من ينصره إن اللَّه لقوي عزيز } (الحج: من الآية40).